الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أحدهما دوامه أزلا وأبدا فكل وجود مقطوع بعدم سابق أو لاحق فهو ناقص ولذلك يقال للإنسان إذا طالت مدة وجوده إنه كبير أي كبير السن طويل مدة البقاء ولا يقال عظيم السن فالكبير يستعمل فيما لا يستعمل فيه العظيم فإن كان ما طال مدة وجوده مع كونه محدود مدة البقاء كبيرا فالدائم الأزلي الأبدي الذي يستحيل عليه العدم أولى أن يكون كبيرا.والثاني أن وجوده هو الوجود الذي يصدر عنه وجود كل موجود فإن كان الذي تم وجوده في نفسه كاملا وكبيرا فالذي حصل منه الوجود لجميع الموجودات أولى أن يكون كاملا وكبيرا.تنبيه:الكبير من العباد هو الكامل الذي لا تقتصر عليه صفات كماله بل تسري إلى غيره فلا يجالسه أحد إلا ويفيض عليه شيئا من كماله وكمال العبد في عقله وورعه وعلمه فالكبير من عباده هو العالم التقي المرشد للخلق الصالح لأن يكون قدوة يقتبس من أنواره وعلومه ولذلك قال عيسى عليه السلام من علم وعمل فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء.الحفيظ هو الحافظ جدا ولن يفهم ذلك إلا بعد فهم معنى الحفظ وهو على وجهين:أحدهما إدامة وجود الموجودات وإبقاؤها ويضاده الإعدام والله تعالى هو الحافظ للسموات والأرض والملائكة والموجودات التي يطول أمد بقائها والتي لا يطول أمد بقائها مثل الحيوانات والنبات وغيرهما.والوجه الثاني وهو أظهر المعنيين أن الحفظ صيانة المتعاديات والمتضادات بعضها عن بعض وأعني بهذا التعادي ما بين الماء والنار فإنهما يتعاديان بطباعهما فإما أن يطفئ الماء النار وإما أن تحيل النار الماء إن غلبت الماء بخارا ثم هواء والتضاد والتعادي ظاهر بين الحرارة والبرودة إذ تقهر إحداهما الأخرى وكذلك بين الرطوبة واليبوسة وسائر الأجسام الأرضية مركبة من هذه الأصول المتعادية إذ لابد للحيوان من حرارة غريزية لو بطلت لبطلت حياته ولابد له من رطوبة تكون غذاء لبدنه كالدم وما يجري مجراه ولابد من يبوسة بها تتماسك أعضاؤه خصوصا ما صلب منها كالعظام ولابد من برودة تكسر سورة الحرارة حتى تعتدل ولا تحرق ولا تحلل الرطوبات الباطنة بسرعة وهذه متعاديات متنازعات.وقد جمع الله عز وجل بين هذه المتضادات المتنازعة في إهاب الإنسان وبدن الحيوانات والنبات وسائر المركبات ولولا حفظه تعالى إياها لتنافرت وتباعدت وبطل امتزاجها واضمحل تركيبها وبطل المعنى الذي صارت مستعدة لقبوله بالتركيب والمزاج وحفظ الله تعالى إياها بتعديل قواها مرة وبإمداد المغلوب منها ثانيا.أما التعديل فهو أن يكون مبلغ قوة البارد مثل مبلغ قوة الحار فإذا اجتمعا لم يغلب أحدهما الآخر بل يتدافعان إذ ليس أحدهما بأن يغلب أولى من أن يغلب فيتقاومان ويبقى قوام المركب بتقاومهما وتعادلهما وهو الذي يعبر عنه باعتدال المزاج.والثاني إمداد المغلوب منهما بما يعيد قوته حتى يقاوم الغالب ومثاله أن الحرارة تفني الرطوبة وتجففها لا محالة فإذا غلبت ضعفت البرودة والرطوبة وغلبت الحرارة واليبوسة ويكون إمداد الضعيف بالجسم البارد الرطب وهو الماء ومعنى العطش هو الحاجة إلى البارد الرطب فخلق الله تعالى البارد الرطب مددا للبرودة والرطوبة إذا غلبتا وخلق الأطعمة والأدوية وسائر الجواهر المتضادة حتى إذا غلب شيء عورض بضده فانقهر وهذا هو الإمداد وإنما تم ذلك بخلق الأطعمة والأدوية وخلق الآلات المصلحة لها وخلق المعرفة الهادية إلى استعمالها وكل ذلك لحفظ الله عز وجل أبدان الحيوانات والمركبات من المتضادات.وهذه هي الأسباب التي تحفظ الإنسان من الهلاك الداخل وهو متعرض للهلاك من أسباب خارجة كسباع ضارية وأعداء متنازعة فحفظه من ذلك بما خلق له من الجواسيس المنذرة بقرب العدو وهي طلائعه كالعين والأذن وغيرهما ثم خلق له اليد الباطشة والأسلحة الدافعة كالدرع والترس والقاضية كالسيف والسكين ثم ربما يعجز مع ذلك عن الدفع فأمده بآلة الهرب وهي الرجل للحيوان الماشي والجناح للطائر وكذلك شمل حفظه جلت قدرته كل ذرة في ملكوت السموات والأرض حتى الحشيش الذي ينبت في الأرض يحفظ لبابه بالقشر الصلب وطراوته بالرطوبة وما لا يحفظ بمجرد القشر يحفظه بالشوك النابت منه ليندفع به بعض الحيوانات المتلفة له فالشوك سلاح النبات كالقرون والمخالب والأنياب للحيوانات.بل كل قطرة من ماء فمعها ملك حافظ يحفظها عن الهواء المضاد لها فإن الماء إذا جعل في إناء وترك مدة استحال هواء وسلب الهواء المضاد له صفة المائية عنه ولو غمست الإصبع في ماء ورفعتها ونكستها تدلت منها قطرة ماء تبقى منكسة لا تنفصل مع أن من شأنها الهوي إلى أسفل ولكنها لو انفصلت وهي صغيرة استولى الهواء عليها وأحالها ولا تزال تمكث متدلية حتى يجتمع إليها بقية البلل فتكبر القطرة فتستجري على خرق الهواء بسرعة ولا يستولي الهواء على إحالتها وليس ذلك حفظا منها لنفسها عن معرفة بضعفها وقوة ضدها وحاجة استمدادها من بقية البلل وإنما ذلك حفظ من ملك موكل بها بواسطة معنى متمكن من ذاتها وقد ورد في الخبر أنه لا تنزل قطرة من المطر إلا ومعها ملك يحفظها إلى أن تصل إلى مستقرها من الأرض وذلك حق والمشاهدة الباطنة لأرباب البصائر قد دلت عليه وأرشدت إليه فآمنوا بالخبر لا عن تقليد بل عن بصيرة.والكلام أيضا في شرح حفظ الله تعالى السموات والأرض وما بينهما طويل كما في سائر الأفعال وبه يعرف هذا الاسم لا بمعرفة الاشتقاق في اللغة وتوهم معنى الحفظ على الإجمال.تنبيه:الحفيظ من العباد من يحفظ جوارحه وقلبه ويحفظ دينه عن سطوة الغضب وخلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان فإنه على شفا جرف هار وقد اكتنفته هذه المهلكات المفضية إلى البوار.المقيت معناه خالق الأقوات وموصلها إلى الأبدان وهي الأطعمة وإلى القلوب وهي المعرفة فيكون بمعنى الرزاق إلا أنه أخص منه إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت والقوت ما يكت في به في قوام البدن.وإما أن يكون معناه المستولي على الشيء القادر عليه والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم وعليه يدل قوله عز وجل: {وكان الله على كل شيء مقيتا} 4 سورة النساء الآية 85 أي مطلعا قادرا فيكون معناه راجعا إلى القدرة والعلم أما العلم فقد سبق وأما القدرة فستأتي ويكون بهذا المعنى وصفه بالمقيت أتم من وصفه بالقادر وحده وبالعالم وحده لأنه دال على اجتماع المعنيين وبذلك يخرج هذا الاسم عن الترادف.الحسيب هو الكافي وهو الذي من كان له كان حسبه والله سبحانه وتعالى حسيب كل أحد وكافيه وهذا وصف لا تتصور حقيقته لغيره فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي لوجوده ولدوام وجوده ولكمال وجوده وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا الله عز وجل فإنه وحده كاف لكل شيء لا لبعض الأشياء أي هو وحده كاف ليحصل به وجود الأشياء ويدوم به وجودها ويكمل به وجودها.ولا تظنن أنك إذا احتجت إلى طعام وشراب وأرض وسماء وشمس وغير ذلك فقد احتجت إلى غيره ولم يكن هو حسبك فإنه هو الذي كفاك بخلق الطعام والشراب والأرض والسماء فهو حسبك ولا تظنن أن الطفل الذي يحتاج إلى أم ترضعه وتتعهده فليس الله حسيبه وكافيه بل الله عز وجل حسيبه وكافيه إذ خلق أمه وخلق اللبن في ثديها وخلق له الهداية إلى التقامه وخلق الشفقة والمودة في قلب الأم حتى مكنته من الالتقام ودعته إليه وحملته عليه فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب والله تعالى وحده هو المتفرد بخلقها لأجله ولو قيل لك إن الأم وحدها كافية للطفل وهي حسبه لصدقت به ولم تقل إنها لا تكفيه لأنه يحتاج إلى اللبن فمن أين تكفيه الأم إذا لم يكن لبن ولكنك تقول نعم يحتاج إلى اللبن ولكن اللبن أيضا من الأم فليس محتاجا إلى غير الأم فاعلم أن اللبن ليس من الأم بل هو والأم من الله سبحانه وتعالى ومن فضله وجوده فهو وحده حسب كل أحد وليس في الوجود شيء وحده هو حسب شيء سواه بل الأشياء يتعلق بعضها ببعض وكلها تتعلق بقدرة الله سبحانه وتعالى.تنبيه:ليس للعبد مدخل في هذا الوصف إلا بنوع من المجاز بعيد وبالإضافة إلى بادئ الرأي وسابق الظن العامي أما كونه مجازا فهو أنه إن كان كافيا لطفله في القيام بتعهده أو لتلميذه في تعليمه حتى لم يفتقر إلى الاستعانة بغيره كان واسطة في الكفاية ولم يكن كافيا لأن الله سبحانه وتعالى هو الكافي إذ لا قوام له بنفسه ولا كفاية له بنفسه فكيف يكون هو كفاية غيره.وأما كونه بالإضافة إلى سابق الظن هو أنه وإن قدر أنه مستقل بالكفاية وليس بواسطة فهو وحده لا يكفي إذ يحتاج إلى محل قابل لفعله وكفايته وهذا أقل الأمور فالقلب الذي هو محل العلم لابد منه أولا ليكون هو كافيا في التعليم والمعدة التي هي مستقر الطعام لابد منها لتكون كافية بإيصال الطعام إلى بدنه وهذا مع ما يحتاج إليه من أمور كثيرة لا يحصيها ولا يدخل شيء منها في اختياره فأقل درجات الفعل حاجته إلى فاعل وقابل فالفاعل لا يكفي دون القابل أصلا وإنما صح هذا في حق الله عز وجل لأنه خالق الفعل وخالق المحل القابل وخالق شرائط قبوله وما يكتنفه ولكن بادئ الرأي ربما يسبق إلى الفاعل ولا يخطر بالبال غيره فيظن أن الفاعل حسبه وحده وليس كذلك.نعم الحظ الذي منه للعبد أن يكون الله وحده حسبه بالإضافة إلى همته وإرادته وهو أنه لا يريد إلا الله عز وجل فلا يريد الجنة ولا يشغل قلبه بالنار ليحذر منها بل يكون مستغرق الهم بالله تعالى وحده وإذا كاشفه بجلاله قال ذلك حسبي فلست أريد غيره ولا أبالي فاتني غيره أم لم يفت.الجليل هو الموصوف بنعوت الجلال ونعوت الجلال هي العز والملك والتقدس والعلم والغنى والقدرة وغيرها من الصفات التي ذكرناها فالجامع لجميعها هو الجليل المطلق والموصوف ببعضها جلالته بقدر ما نال من هذه النعوت فالجليل المطلق هو الله عز وجل فقط فكأن الكبير يرجع إلى كمال الذات.والجليل إلى كمال الصفات والعظيم يرجع إلى كمال الذات والصفات جميعا منسوبا إلى إدراك البصيرة إذا كان بحيث يستغرق البصيرة ولا تستغرقه البصيرة.ثم صفات الجلال إذا نسبت إلى البصيرة المدركة لها سميت جمالا وسمي المتصف به جميلا واسم الجميل في الأصل وضع للصورة الظاهرة المدركة بالبصر مهما كانت بحيث تلائم البصر وتوافقه ثم نقل إلى الصورة الباطنة التي تدرك بالبصائر حتى يقال سيرة حسنة جميلة ويقال خلق جميل وذلك يدرك بالبصائر لا بالأبصار والصورة الباطنة إذا كانت كاملة متناسبة جامعة جميع كمالاتها اللائقة بها كما ينبغي وعلى ما ينبغي فهي جميلة بالإضافة إلى البصيرة الباطنة المدركة لها وملائمة لها ملاءمة يدرك صاحبها عند مطالعتها من اللذة والبهجة والاهتزاز أكثر مما يدركه الناظر بالبصر الظاهر إلى الصورة الجميلة فالجميل الحق المطلق هو الله سبحانه وتعالى فقط لأن كل ما في العالم من جمال وكمال وبهاء وحسن فهو من أنوار ذاته وآثار صفاته وليس في الوجود موجود له الكمال المطلق الذي لا مثنوية فيه لا وجوبا ولا إمكانا سواه ولذلك يدرك عارفه والناظر إلى جماله من البهجة والسرور واللذة والغبطة ما يستحقر معه نعيم الجنة وجمال الصورة المبصرة بل لا مناسبة بين جمال الصورة الظاهرة وبين جمال المعاني الباطنة المدركة بالبصائر.وهذا المعنى كشفنا عنه الغطاء في كتاب المحبة من كتب إحياء علوم الدين.فإذا ثبت أنه جليل وجميل فكل جميل فهو محبوب ومعشوق عند مدرك جماله فلذلك كان الله عز وجل محبوبا ولكن عند العارفين كما تكون الصورة الجميلة الظاهرة محبوبة ولكن عند المبصرين لا عند العميان.تنبيه:
|